Page 1
Page 2
Page 3
Page 4
Page 5
Page 6
Page 7

"الاستدامة البيئية في المدينة العربية التراثية: دروس مستفادة"

ورقة عمل مقدمة إلى مؤتمر "العمارة والمدينة الخضراء" الذي تنظمه هيئة المعماريين العرب في عمان في أب 2015

 

منذ زمن قريب ظهرت مفاهيم مثل "التنمية المستدامة" أو "التنمية المتواصلة"، وكذلك الحفاظ على البيئة، و"المبنى الصديق للبيئة" و"العمارة والمدينة الخضراء"، وهى مفاهيم تأخذ في اعتبارها البعد الزمني للتنمية، وحق الأجيال القادمة في التمتع بالموارد والثروات الطبيعية، كما تتمتع بها الأجيال المعاصرة. أي أن هذه التنمية تسعى إلى الاستقرار، والاستمرار، وتتجاوز النظرة الاقتصادية الضيقة، والتي تسعى لطلب الربح السريع مع تعظيمه، فتتخطى ذلك بالحفاظ على الموارد والثروات الطبيعية، وتعمل على قابلية استغلالها لمدد أطول من الزمن لتخدم الأجيال القادمة، حتى ولو تم في سبيل ذلك التضحية ببعض الربح الآني. ومع أن هذه التوجهات قد بدأت تؤتى ثمارها في الغرب، إلا أنها لازالت في مهدها في المنطقة العربية بشكل عام. إن الطفرة في مجال البناء في هذه المنطقة، وبخاصة في دول الخليج العربية، قد ضاعفت من استهلاك الطاقة والمصادر الطبيعية بدرجة فاقت كل التوقعات، مما يحتم زيادة الاهتمام بأساليب تصميم بديلة لتحقيق إدارة أفضل للثروات الطبيعية في المنطقة، والتقليل من حجم الأضرار الناجمة وتأثيرها على البيئة. وأصبح من الضرورة ومن الواجب إيجاد آلية فعالة للاستفادة من التطور العالمي في مجال العمارة الخضراء، وتشجيع البحث العلمي وإجراء التجارب على تقنيات الاستدامة التي تم تطويرها في الغرب، وتطويعها لتناسب البيئات الطبيعية المختلفة في المنطقة العربية. ومن المفيد كذلك تقييم التجارب المعمارية التي شهدتها المنطقة خلال النصف الثاني من القرن العشرين في مجال ما يعرف بالعمارة الإقليمية، وإسهامات العديد من المعماريين العرب وغير العرب في إيجاد عمارة معاصرة تنتمي إلى البيئة العربية وتراثها العريق، مع الاستفادة من الحلول المختلفة التي ظهرت في تلك الفترة للتعامل مع العوامل المناخية والظروف الاقتصادية والاجتماعية.

 

من جهة أخرى فإن من الجدير الاهتمام بدراسة الحلول البيئية التراثية التي أفرزها التفاعل الإيجابي بين الإنسان وبيئته الطبيعية عبر الزمان، والتي تجلت في المظاهر والأنماط العمرانية والمعمارية المميزة في البيئة العربية. ومنها على سبيل المثال المفاهيم الحضرية التي تعكس العلاقات الاجتماعية وتعززها، كالحي و"الفريج" و"البراحة" و"السكيك"، والتكامل الوظيفي في استعمالات الأراضي الذي يحقق الكفاءة في الحركة واستهلاك الطاقة، والمفاهيم المعمارية كالفناء وملقف الهواء، وعناصر التظليل، والتحكم بالإضاءة الطبيعية، وأساليب العزل الحراري باستخدام مواد البناء المحلية، واالتقنيات الطبيعية التي كانت تستخدم لترطيب الهواء وتبريده، والاستعانة بالدراسات العلمية التي أجريت على هذه الأنماط. وهناك حاجة كذلك لفهم الدور الثابت الذي تتبناه الثقافة العربية الإسلامية في الحفاظ على البيئة، والاقتصاد في استهلاك الموارد الطبيعية وعدم التبذير حتى في ظروف الوفرة، إذ تمثل هذه القيم الدينية أساسا قويا لتبني مفاهيم الاستدامة الشاملة الثقافية والبيئية والاقتصادية في المجتمع العربي.

 

إن البحث في موضوع الاستدامة البيئية في المدن العربية التراثية، وإلقاء الضوء على الدروس التي يمكن استخلاصها والاستفادة منها من خلال تحليل وفهم الحلول البيئية العمرانية والمعمارية التي تحتويها هذه المدن، ومدى ارتباط ذلك بالمفاهيم والتطبيقات الحديثة للعمارة الخضراء، يستوجب الاهتمام بهذه المدن، أو ماتبقى منها، والحفاظ عليها لتبقى مرجعيات حية، ومناهل للعلم والدروس العملية. وتأتي أهمية هذا التوجه في وقت تعاني مدن عربية قديمة من الخراب والإهمال العام والتهديدات المتصاعدة والضغوط الناجمة عن التمدن الحديث، والتوسع العقاري الغير منضبط، فضلا عن الكوارث التي تسببها الصراعات الدموية والحروب التي أدت ولا تزال إلى تدمير أجزاء من المدن العريقة والآثار في بلاد عربية كالعراق وسوريا واليمن وفلسطين، والتي كانت تشكل إرثا إنسانيا عالميا لا يقدر بثمن.

 

تعنى العمارة التراثية بالمكان، وهي تتأثر وتتكون نتيجة قوى بيئية وعوامل اقتصادية واجتماعية. وقد تطورت عبر تفاعل الإنسان مع بيئة معينة مع مرور الوقت، مستخدمة تقنيات البناء المتوفرة، وعكست الأنماط والأشكال والتفاصيل المعمارية نتيجة هذا التفاعل. إن الفهم الكافي لتطور هذه العناصرالمعمارية التراثية والمنطق الذي يحكمها يساهم في تكوين مقاربة منطقية أكثر عند تبنيها وتفسيرها اليوم كعناصر تصميم مستدامة، وليس مجرد الرجوع اليها عموما كرموز أو أدوات بصرية جذابة ورومانسية. على سبيل المثال، فقد تم تبني المنازل ذات الفناء الداخلي كابتكار "أخضر" لتوفير مناخ محلي ملائم في قيظ الصحراء، وقد شكل ذلك بناء صديقا للبيئة. واختلف حجم الفناء ومساحته بشكل ملحوظ ليعكسا الظروف البيئية المحددة في كل منطقة، وكذلك العوامل الإجتماعية والإقتصادية والعمرانية، فقد كانت فناءات المنازل القديمة في القاهرة صغيرة حيث تعمل كأوعية للتبريد، بينما كانت الفناءات في منطقة الخليج فسيحة عموما مع أروقة مظللة ومقاييس تساعد على الحماية من العواصف الرملية، وحيث لم تكن الأرض محدودة المساحة، كان يبنى أكثر من فناء في المنزل لتلبية الحاجات المختلفة للعائلة. ومن الأمثلة الأخرى إقامة مجموعة  فناءات متجاورة تسمح بإنتقال التهوية في ما بينها. وقد أقيمت مساكن بطبقات مختلفة تتغير استخداماتها بين الجلوس والنوم في ساعات مختلفة من النهار والليل، وعند تغيير الفصول. وتتضمن المنازل القديمة في بغداد ذلك الإستخدام العمودي المبتكر حول الفناء الداخلي المركزي. وتؤدي أسطح المباني دورا مهما في هذه المنظومة البيئية، حيث تشكل فراغات معاشة مفتوحة إلى السماء، تحوي عناصر للتظليل ونباتات، وغالبا ما كانت تستخدم من قبل أفراد العائلة في المساء، أو للنوم في ليالي الصيف الحارة.

 

استخدمت الأروقة والعرائش والمشربيات في المنازل من ضمن أدوات عديدة لتظليل غرف الجلوس أو لتخفيف ضوء الشمس القوي. واستخدمت لاقطات الرياح او الأبراج بأشكال مختلفة في أماكن عدة في المنطقة للتغلب على الرطوبة الناجمة عن بقاء الرياح في أماكن الجلوس. على سبيل المثال، باتت أبراج الرياح التي استقدمت من إيران إلى دبي القديمة موضوع دراسات علمية حديثة وفحوض مخبرية لتقييم أدائها البيئي. وقد درس المعمار حسن فتحي بدقة ملاقف الهواء في منازل القاهرة في منتصف القرن العشرين، وكشف مساهماتها القيمة في الراحة البيئية في قاعات القاهرة الشهيرة. واقيمت في هذه المنازل شلالات صغيرة ونوافير مياه وزرعت أحواض في الفضاءات الخاصة والعامة لتخفيض درجة الحرارة وتلطيف المناخ المحلي. وقد خدم وجود المزروعات الأهداف الجمالية والرمزية والترفيهية للتصاميم التفصيلية والمنمقة لحدائق الفناءات من إيران إلى الأندلس. وتعكس طبيعة حدائق كهذه أيضا الظروف البيئية القاسية في المنطقة وندرة المياه الضرورية لها، وهي مستوحاة كذلك من ثقافة الطبيعة التي تستقي رمزيتها من الصور القرآنية لحدائق الجنة.

 

عبر التاريخ، وفي أنحاء المنطقة العربية الإسلامية، استخدمت العناصر المائية بشكل خلاق في المنازل، ويمكن رؤيتها في القاهرة ودمشق ومدن إيران والمغرب والأندلس. فنافورة المياه أكثر فاعلية من بركة ساكنه بالحجم ذاته، وهي لا تلطف الهواء فقط بل "تنظفه". في بعض المنازل العربية القديمة، استبدلت النافورة بالسلسبيل الذي ينبع من حجرة جانية، تدعى الإيوان، إلى بركة في وسط الفناء الخارجي. يبنى السلسبيل من بلاطة رخام منحوتة بشكل متموج، تنحدر عليها المياه مؤدية إلى التبريد التبخيري. وتشكل النوافير وقنوات المياه الباقية في حدائق قصر الحمراء شهادة على المعرفة والتقنيات الهندسية المتقدمة التي طورها وبناها معماريون ومهندسون عرب ومسلمون. وما زالت قنوات المياه في حدائق جنة العريف توفر مياها نقية باردة من جبال سيرا نيفادا البعيدة. وتعكس جمالية نوافير المياه في حدائق فناءات قصر الحمراء والمنطقة وعيا بيئيا مرهفا، معبرة عن قيمة المياه في هذا الجزء من العالم. كما توظف المياه بشكل مباشر في بعض الفناءات، ففي صحن العديد من المساجد القديمة في فاس وإسطنبول مثلا، ما زالت نوافير المياه تستخدم للوضوء والشرب، كما الحال في مسجد القرويين في فاس. وعلى نطاق أصغر، وضعت أوعية مياه الشرب داخل مشربيات تقليدية في منازل القاهرة القديمة لترطيب الهواء وتبريد المياه بغرض الشرب، ومن هنا جاءت تسميتها بالمشربيات. على النطاق العمراني، استخدمت مياه الأسبلة للشرب عادة في مدارس تعليم القرآن للصغار (الكتاب) والتي اصبحت مصدرا للإحتفاء في القاهرة القديمة معماريا وعمرانيا. ويشكل سبيل وكتاب عبد الرحمن كتخدا في القاهرة القديمة مثالا نموذجيا على ارتباط المياه بالثقافة. لنوافير مياه الشرب أيضا خصائص وظيفية وجمالية واجتماعية مهمة في الطابع العمراني للمدن والقرى المغربية. وقد بذلت جهود كبيرة لاستخدام هذا المورد الطبيعي الثمين والحفاظ عليه وجره إلى المدن والأرياف للاستهلاك المحلي والري والصناعة. إن استخدام المياه في تلك المباني والمدن والأراضي الزراعية هو نتاج ثقافة تحترم هذا المورد الطبيعي الثمين وتقدره.

 

لم تتأثر العمارة التراثية بالممارسات البيئية فقط، إنما تاثرت أيضا بتلك الإجتماعية، والثقافية والدينية، فقد نجح التوجه الداخلي العام للعمارة في المناطق التي نشأت وازدهرت فيها المجتمعات الإسلامية، ليس فقط  من وجهة نظر مناخية، بل أيضا في طريقة إرضائه للطبيعة المحافظة للمجتمعات المسلمة. فما تدعو إليه تعاليم الإسلام من خصوصية وتأكيد على تكافل المجتمع واحترام الجيران، عبرت عنه تشكيليا المجاورات المتلاصقة في المدن التراثية في المنطقة العربية بأزقتها الضيقة وأفنيتها، وفصلها الواضح بين الساحات العامة والأفنية الخاصة.

 

وقد ساهمت البنية الإجتماعية والعلاقات الأسرية الممتدة في التكوين العضوي للتجمعات العمرانية التراثية، في حين أثرت طبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع في شكل الفضاءات العامة والخاصة في المدينة، وشكلت الأبعاد الإنسانية للتجربة العامة في السياق العمراني، التي تجسدت بمفهوم الفريج أو الحارة مثلا. وشكلت القيم الثقافية ممزوجة بالإعتبارات البيئية شخصية هذه المدن، مع التعبير عن العلاقة القوية بين الطبيعة والشكل المبني، والمقياس الإنساني، والنسيج العمراني الكثيف، والتوجه الداخلي، والتركيز على الفراغ المعاش أكثر من المنشآت المستقلة أو المباني الفردية.

 

وقد أوجدت الكثافة العمرانية في المدن العربية أزقة ضيقة بين المباني، ساعدت على تظليل طرق حركة المشاه، وحمتهم من القيظ، وما زال من الممكن رؤية أمثلة على ذلك في مدن عربية تاريخية عديدة مثل فاس ومراكش في المغرب وغيرهما. وتعني الكثافة العمرانية في هذه المدن كذلك تقليص شبكات الحركة والنقل، وأنه يمكن للناس أن يعيشوا ويعملوا ويتسوقوا ويذهبوا للصلاة مشيا ضمن مسافة قريبة، وبالتالي تقليل استهلاك الطاقة والحاجة إلى وسائل النقل وتوفير الوقت الثمين والتوتر والجهد للتنقل بين هذه الأماكن. وجدير بالذكر أن مراكش مثلا استقطبت الناس للعيش فيها وليس فقط لزيارتها كسياح، وشجعت سوق العقارات الذي انتعش في هذه المدينة في القرن الواحد والعشرين مساهما في استدامتها وجدواها الإقتصادية.  

 

لقد تطورت أشكال العمارة التراثية عبر إجراء اختبارات وتجارب لمواد وأنظمة بنوية وتقنيات مختلفة، وأثر الحرص والاقتصاد في المواد والتقنيات في تطور أنظمة الإنشاء والتسقيف والجماليات المرافقة لها. وخلال التاريخ الإسلامي ، نتج عن التفاعل مع ثقافات أخرى عبر الفتوحات والتجارة استعارة التقنيات واستيراد المواد والبنائين، مما أدى إلى نشوء أشكال وأنواع من العمارة "الهجينة" التي أعطت تنوعا وحيوية للعمارة التقليدية في مواقع جغرافية مختلفة.

 

من الخصائص المهمة للعمارة التراثية إمكانيات التحكم بالحرارة، والذي يتم من خلال عدد من التقنيات التي ابتكرها البناؤون القدماء، ومنها مثلا اختيار مواد البناء والتكسية بعناية، فمثلا يسبب تجاور المواد العاكسة المختلفة انخفاضا في الحرارة يحسن الحمل الحراري. ويقع أول خط للتحكم الحراري على السطح الذي تكون حرارته تحت أشعة الشمس المباشرة أعلى من حرارة الهواء، ولذلك تقلل حركة الهواء فوق سطح مفتوح تأثير الحر الخارجي. وتزيد الأسطح المموجة غير المستقيمة، مثل الأسطح المقببة في القدس القديمة، أو طبقات القرميد المجوف، أو الأحجار المنحوته بدقة، أو حتى ألواح الجص الزخرفية، معدل توزع الحمل الحراري تلقائيا وبالتالي تولد التبريد.

 

وتشكل خصائص الامتصاص الإنتقائي للمواد وانبعاثاتها دفاعات فعالة كذلك إزاء تأثير الإشعاعات، وهي مهمة بشكل خاص في ظروف الحرارة الزائدة. فالمواد التي تعكس الإشعاعات بدل امتصاصها، وتطلق الكمية التي امتصتها كإشعاع حراري، سوف تخفض الحرارة داخل المبنى. وترتبط جدران السيراميك، في فناءات منازل ايران والعراق وشمال افريقيا وإسبانيا، وكذلك بلاط الرخام الموجود داخل معظم منازل المنطقة، مباشرة بخصائص هذه المواد "الباردة".

من جهة اخرى تطورت الرمزية في العمارة التقليدية نظرا للتفاعل القريب بين الإنسان والثقافة والطبيعة. وقد ساعدت في خلق رابط قوي بين المجتمعات وبيئتها المادية، منتجة حس الإنتماء والهوية. وتعبر العمارة الإسلامية عن هذه الرمزية عبر استخدام علم الهندسة في الأشكال البنيوية وتطبيقات الأسطح المزخرفة، واستخدام الخط العربي، واستعمال المقرنصات مثلا، والجوانب الرمزية للألوان وملمس السطح، وكذلك استعمال المياه والحدائق المستوحاة من الوصف القرآني للجنة. ونظرا لطبيعة الثقافات المعاصرة السريعة التغير، تراجعت هذه الرمزية بشكل كبير في البيبئة الحديثة. ويمكن لفهم الجوانب الرمزية للعمارة التراثية وأثرها على رفاهية الأفراد وهوية المجتمعات أن يثري الممارسات العمرانية الحالية ويضاعف قيمة أهدافها.

 

خاتمة

 

يمكن الاستنتاج من هذا العرض السريع أن هناك دروسا بيئية قيمة بالإمكان تعلمها من العمارة التراثية. فعناصر مثل أبراج الهواء واستخدام الأفنية ووسائل التعامل مع الطاقة " السلبية" في العمارة التراثية، هي أمثلة مناسبة ونموذجية للتصميم الأخضر. وينبغي تحليل الإرث المعماري الغني للمنطقة وفهمه بدقة في سياقه التاريخي والمادي الخاص، وأخذ قيمه الإنسانية والثقافية والبيئية في الاعتبار، وتكييفها وتطبيقها حيث كان ممكنا ومناسبا حسب الظروف والتقنيات المعاصرة. لكن هذه ليست دعوة إلى اعتماد الحلول التقليدية لحل المشاكل المعاصرة والمختلفة والأكثر تعقيدا، بل إلى استعمال مفاهيم ووسائل كهذه في ظروف مشابهة حيث يمكن أن تساهم إعادة تقديم القيم والأساليب التقليدية وتعزيزها في الاستدامة البيئية والثقافية العامة لمنطقة محلية معينة، وهي تتعلق أيضا بالمساءلة الدقيقة والنقد الموضوعي لمدى ملاءمة الممارسات الحديثة الراهنة للتخطيط والتمدن والنمو العمراني، الذي ساهم في تدهور نوعية الحياة في المنطقة العربية وتغريبها بشكل عام.

 

ولإلقاء مزيد من الضوء على بعض تفاصيل العمارة التراثية، وإمكانية التطبيق المعاصر لها، يستعرض البحث فيما يلي بايجازحالتين دراسيتين لبيتين: الحالة الأولى هي لبيت السحيمي في قلب القاهرة الفاطمية، والذي تجتمع في تكوينه وتشكيله المعماري العديد من العناصر والأفكار البيئية التراثية التي تناولها البحث. أما الحالة الثانية فهي لمجموعة من البيوت الاستثمارية الصغيرة نسبيا، (من تصميم المؤلف)، ويقع في الكويت، والتي استخدم المعماري فيها العناصر والقيم التراثية والبيئية في قالب جديد يلبي احتياجات وأسلوب معيشة الأسرة العربية المعاصرة. (مرفق الصور في نهاية البحث).
حالة دراسية (1) : بيت السحيمي، القاهرة

 

بيت السحيمي هو منزل تاريخي (1648-796) يقع في القاهرة القديمة (الفاطمية)، ويمكن الوصول إليه عبر شارع ضيق قرب شارع المعز. يعكس التخطيط المركب للمنزل وتصميمه المحكم توسعه التدريجي عبر الوقت، ويتضمن فناءا مستطيلا في مركزه، مع فناء أو حديقة خلفية إلى جهة الشمال. ويمكن الوصول إلى الفناء عبر مدخل "منحن" يقود إلى هذه الساحة المفتوحة والمزروعة التي تم الحفاظ على تصميمها الأصلي.

 

يزيد مخطط الفناءين الحجم المتاح للمناطق الحرارية، مما يمكن الساكنين من اختيار الجو الأكثر ملاءمة لحاجاتهم. ويسبب اختلاف الحرارة اليومي والفصلي حركة تنقل داخل المنزل أصبحت أمرا معتادا وجزءا من ثقافة سكان المنزل. ويتضمن بيت السحيمي أماكن عديدة ذات حرارة معتدلة حول فنائه المركزي، مثل القاعات والتختبوش والمقعد والمقاعد المبنية داخل المشربيات. ويعمل الفناء كبئر تبريد يأتي اليه الهواء البارد من السطح، لذلك تبرد الغرف السفلية أسرع خلال الليل. ويحفظ هذا الهواء البارد أطول فترة ممكنة. ولا يحمي المدخل "المنحني" المؤدي إلى الفناء من الشارع خصوصيته فقط، بل يساعد أيضا عى حفظ الهواء البارد في الفناء. وتتألف القوى الحرارية التي تعمل على جدران الفناء وأرضه من الأشعة الشمسية وتبادل الحرارة المشعة، وتساعد الجدران العالية حول الفناء والنباتات المزروعة على تخفيض الحرارة عبر التظليل، وتساعد بالتالي في حفظ الهواء البارد. وتحدد الجدران العالية حدود الفناء وتحمي برودته.

 

يسري النسيم البارد الذي يولده اختلاف الضغط بين الفناء والغرف المحيطة على مراحل، في حين تساهم عناصر التهوية وملاقف الهواء في القاعات المختلفة في توزعه داخل المنزل. ويساعد هذا النسيم أيضا تصميم الفنائين في هذا المنزل، حيث يقع مقابل المدخل الرئيسي للفناء رواق مسقوف يسمى تختبوش (عثماني)، مع مشربيه تعطي بعدا إضافيا للفناء عبر منظر الحديقة الخلفية. وهو مكان مفضل للجلوس بسبب النسيم الذي يسري بين الفناءين، ويمر الهواء من حديقة الفناء المظللة فوق المبردات التبخيرية مثل الأوعية المسامية، إلى الفناء الواسع الدافئ. ويتولد في هذا المكان إحساس خاص بالراحة يتم إدراكه من خلال تناوب النسيم الدافئ والبارد، وهو مختلف جدا عن الحرارة الثابتة والرطوبة في بيئة مكيفة ميكانيكيا.

 

المقعد هو أحد الأمكنة الحرارية - الإجتماعية في هذا النوع من المنازل، يشرف على الفناء الرئيسي في الطابق الأول. هو دائما بارد ومنعش ويتمتع بأفضل منظر ونسيم من الفناء، وهو مكان مفضل لتجمع العائلة. والمشربية موجودة هنا بكثرة، هي وسيلة بيئية وثقافية ومعمارية معقدة، فهذه النافذة الدقيقة لديها عادة مقصورة صغيرة يوجد فيها وعاء مسامي مملوء بالمياه. ويبرد الهواء الخارجي عبر التبخر عند مروره فوق سطح الوعاء. وفي نهاية المطاف، تبرد المياه داخله وتستخدم للشرب، ومن هنا جاء إسم "المشربية". ويخفف تصميم النافذة إمكانية إختراق الشمس والضوء للغرفة، لكنه يسمح بمرور الهواء البارد غلى القاعة. وكانت هذه النوافذ تستخدم كأماكن جلوس مفضلة للتمتع بالنسيم البارد والضوء المنقى والمناظر الخارجية من دون انتهاك الخصوصية.

 

من المكن اعتبار هذا المبنى بمثابة نموذج للنجاح البيئي لمفهوم المنزل ذي الفناء، ويبقى اليوم دليلا على مقاربات مستدامة مبتكرة تبناها ذلك المجتمع التقليدي. وقد استعاد بيت السحيمي مؤخرا مجده السابق، من خلال ترميمه والعناية به كمتحف، ويبقى مثالا مهما على ابتكارات البناء التقليدي، مقدما دورسا قيمة في العمارة الخضراء المستدامة.

 

حالة دراسية (2) : منازل الدلالية، الكويت

 

تقع منازل الدلالية على أربع قطع متجاورة، متبنية فكرة المنزل ذي الفناء. ويعتبر حجم كل منزل وقدرته الوظيفية متواضعا نسبيا مقارنة مع منازل مماثلة في الكويت وتصل مساحتها المبنية إلى نحو 600 متر مربع. ويبدو حجم الفناء مثاليا لعائلة صغيرة أو متوسطة الحجم – نحو 6 x 6 أمتار ويعمل كامتداد لغرف الجلوس الداخلية لاستخدام العائلة وضيوفها.

 

تتناقض هوية هذا المشروع بشكل حاد مع أسلوب العمارة السائد في الكويت اليوم، حيث تمثل أنواع المنازل مثل الفلل والشقق قيما وأنماطا سلوكية اجتماعية ثقافية تختلف عن تلك التي يمثلها المنزل التقليدي ذو الفناء. أصدرت بلدية الكويت خلال الخمسينيات من القرن العشرين قوانين بناء استندت فيها على نماذج غربية، أدى اعتمادها إلى انتشار اشكال عمرانية تبدو متنافرة مع الإرث البيئي والثقافي المحلي. على المستوى البيئي، أدى اعتماد اسلوب المنزل – الفيلا إلى زيادة الأسطح الخارجية وحجم النوافذ واختراق الحر نتيجة ذلك، وبالتالي ازداد الاعتماد على أجهزة التبريد. من جهة أخرى، تقيد الأسوار حول الفيلا حرية الحركة بين الداخل والخارج إلا إذا كانت مرتفعة بما يكفي لمنع التطفل البصري. ولا تفي شرفات الشقق بغرضها جيدا لأسباب مشابهة، نظرا للحر الشديد في الكويت. وقد أدى تطبيق تلك المفاهيم، مع تبني أفكار التصميم الغربية واستعمال التكنولوجيا المتقدمة لتوفير الراحة البيئية المطلوبة، إلى اختفاء المنازل ذات الفناء من المشهد العمراني في الكويت الحديثة.

 

في مشروع الدلالية، الذي قمت بتصميمه في 2002، ألغيت الأسوار بين الوحدات الأربع لألتصاقها ببعضها البعض، مما سمح بإقامة فناء مركزي، وشكل جدار المنزل الواحد ذي الطابقين الجدار الرابع لفناء المنزل المجاور. وتم ذلك بالتفاوض مع البلدية للحصول على إعفاءات من القوانين المحلية. على المستوي الوظيفي، كان على الأفنية تلبية أنماط الحياة المعاصرة للأسر الكويتية التي اعتادت أجهزة التبريد والتهوئة في الداخل. وتوفر هذه المنازل خيار الانتقال من أحد أجزائها إلى آخر ضمن نظام مغلق كليا يتوسطه الفناء، لكن الفناء يوفر مناخا محليا معتدلا، ويمكن اعتباره ايضا عاملا مكانيا فعالا وغرفة خارجية إضافية محمية وواسعة.

 

يتضمن الفناء نافورة وقناة مياه، ونباتات مزروعة في قوارير، وهو محاط برواق في الطابق السفلي ومقعد في الطابق الأول ومشربيه. وتحسن عناصر كهذه المناخ المحلي المعتدل الذي يخلقه التظليل وتأثير "بئر التبريد" – الفناء، مما يسمح بإستخدام إضافي للفناء، ويساعد على الاقتصاد باستهلاك الطاقة ويقلل الاعتماد على الأجهزة الميكانيكية. ويشكل الفناء أيضا "منورا" لدخول الضوء المنقى إلى الأجزاء الداخلية من المنزل، مما يساعد على تخفيف استهلاك الكهرباء لأغراض الإنارة.

 

مع أن هذا النموذج لا يقدم حلولا للمشكلة العامة للسكن في مراكز مدنية مكتظة في المنطقة العربية. لكنه، يمكن أن يوفر كثافة أعلى ومقاربة بيئية وثقافية أكثر ملائمة من ممارسات التخطيط الحالية لوحدات سكنية مماثلة. وقد اثار المشروع الاهتمام بالفناء كبديل عملي قابل للتطبيق في الفلل في الكويت، وقد ساهم في تنامي الطلب على هذا النمط من البيوت، وقد قمت منذ ذلك الحين، ومن قبل ذلك منذ ثمانينات القرن العشرين، بتصميم العديد من هذه البيوت في الكويت، والسعودية، والإمارات، والأردن. ومع تعريف الناس أكثر بالمسكن ذي الفناء، يؤمل أن يؤدي هذا الإهتمام إلى بحث إضافي في إمكانيات التكيف للبناء بكلفة معقولة، مدعوما بتعديل قوانين البناء وإرادة لتعديل في أنماط المعيشة.

 

منشورات للمؤلف باللغة العربية مرتبطة بالموضوع:

 

01 - "مساكن لثلاثة أخوة وديوان العائلة في الطائف – حارة معاصرة وألفة أسرية"

مجلة البناء، السنة الرابعة والثلاثون – العدد 285، شعبان 1435، يوليو2014.

 

02 - "العمارة الخضراء: تطبيقات في البيئة العربية"

مجلة البيئة والتنمية، مجلد 14، العدد 138، سبتمبر 2009

 

03 - "ضمن سياق العصر وعالميته: نحو عمارة محلية في المنطقة العربية"

مجلة البناء، السنة التاسعة والعشرون، العدد 220، صفر 1430فبراير 2009

 

04 - "العمارة الخضراء وإمكانيات التطبيق في العالم العربي"

مجلة عمار، العدد 110، أكتوبرنوفمبر 2007

 

05 - "الفناء في البيت العربي"

مجلة عمار، العدد 94، شعبان 1426، سبتمبر 2005

 

References on the subject in English by the Author:

 

 

  • “Environmental Sustainability in Traditional Arab Architecture” Special Supplement Section, Chapter 6, Cities and Buildings, Arab Environment 4, Sustainable Transition in a Changing Arab World, 2011 Report of the Arab Forum for Environment and Development, AFED

 

  • “The Courtyard House Revisited” HOME Magazine, Issue No. 63, August 2011

 

  • “The Essence of Tradition” HOME Magazine, Issue No. 63, August 2011

 

  • “The Courtyard House from Cultural Reference to Universal Relevance,” edited by Rabbat, Nasser, Ashgate Publishing Limited, Surry, England in association with the Aga Khan Program for Islamic Architecture, 2009. Ad-Dalaliah is one the case studies included by the author in this chapter.

 

  • “Green Architecture: Applications in The Arab Environment,” in Al-Bia wal-Tanmia, Environment & Development, Volume 14, Number 138, September 2009.

 

  • “A New Formula for the Traditional Arab House – Residences in Kuwait, Designer: Wael Al-Masri,” in Umran Magazine #26, May 2009. Ad-Dalaliah is the subject of this magazine article.

 

  • “Green Architecture and the Potential for Sustainable Development in the Arab Region”

Amar Magazine, Issue No. 110, October/November 2007

 

  • “Courtyards with Contemporary Presence – New Interpretations for the Arab House – Designer Wael Al-Masri,” in Albenna Magazine, 182, Nov. 2005. Ad-Dalaliah is the subject of this magazine article.

 

  • “The Courtyard in the Arab House,” by Wael Al-Masri, in Amar Magazine, 94 (September, 2005): pp.56-63.

 

  • “The Arabic Courtyard House,” Bachelor’s Dissertation, School of Architecture, by Wael Al-Masri, University of Manchester, England, United Kingdom, 1983. Beit Al-Sehemi is one of the case studies included in this dissertation.